الرشوة لغة:
قيل في المحاباة والجعل؛ قال صاحب القاموس: الرشوة مثلثة الجعل، ورشاه أعطاه، وارتشى أخذها، واسترشى طلبها، والفصيل طلب الرضاع، والرشاء ككساء: الحبل.
وزاد صاحب اللسان: وهي مأخوذة من رشا الفرخ؛ إذا مد رأسه إلى أمه لتزقه.
قال ابن الأثير: الرشوة الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء؛ فالراشي الذي يعطي من يعينه على الباطل، والمرتشي الآخذ، والرائش الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا ويستنقص لهذا.
ألفاظ مرادفة للرشوة: منها السحت والبرطيل:
والسحت لغة: الحرام، أو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار؛ سمي بذلك لأنه يسحت البركة ويذهبها، يقال: (سحته الله) أي أهلكه، ويقال: (أسحته)، وقرئ بهما في قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أي يستأصلكم ويهلككم
الرشوة في الاصطلاح:
ومما يلزم التنبيه عليه هو أن ما لا يوجد له معنى دقيق في اللغة لا يتأتى وجود معنى دقيق له في الاصطلاح؛ لأن المعنى اللغوي أسبق في الوضع والاستعمال؛ فإذا جاء الشرع نقل المعنى اللغوي إلى الاستعمال الشرعي مع زيادة شروط ووضع قيود شرعية.
الرشوة في القرآن الكريم:
مأخذ النصوص على الرشوة في القرآن عند العلماء في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: في سورة البقرة في أعقاب تشريع الصيام وقبل الفراغ منه، وذلك في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
والنص هنا على وضوحه فهو عام في النهي عن أكل الأموال بالباطل بأي صفة كانت، وخاص في الإدلاء بها إلى الحكام لأكل فريق من أموال الناس بالإثم، وهذا النص أقرب موضوعية إلى الرشوة ولارتباط الرشوة بالرشاء في معنى الإدلاء بها على ما سيأتي إيضاحه إن شاء الله.
والموضعان الثاني الثالث: في سورة المائدة.
تفشي الرشوة والبيئة التي تساعد على انتشارها:
ما دامت الرشوة على غير العادة فإن عوامل تفشيها هي أيضا عوامل غير عادية:
- وأهمها وأساسها هو ضعف الوازع الديني للآتي:
1- ما ظهر من ربطها بالصوم.
2- ما ظهر من أنها من عمل المنافقين واليهود.
3- ما ظهر من أن منهجها الأساسي هو الاستماع للكذب والمسارعة للعدوان والإثم.
ثانيا: وقوع الظلم والجور في المجتمعات؛ فيعمد العامة لدفعها خوفا على أنفسهم أو تفشيا في غيرهم.
ثالثا: عدم مراقبة العمال وأصحاب الولايات على الرعية من قبل المسؤولين؛ فيتجرأون على أخذ الرشوة على أعمالهم.
رابعا: وجود خلل في نظام السلطة؛ فلا يصل صاحب الحق إلى حقه إلا بها.
خامسا: وجود الحاجة والفاقة؛ فيعمد المحتاج إليها للوصول إلى أكثر مما له لسد حاجته وفاقته كما فعل اليهود في خيبر.
مضار الرشوة:
لا شك أن مضار الرشوة مما أجمع العقلاء عليها؛ سواء على الفرد أو على المجتمع، في العاجل أو في الآجل، ولكن هذا الإجماع في حاجة إلى تفصيل وأمثلة في بعض المجالات مما يزيد المعنى وضوحا، وعليه سنورد الآتي على سبيل الأمثلة لا الاستقصاء والحصر، وفي البعض تنبيه على الكل.
وأعتقد أن مضار الرشوة تتفاوت بتفاوت موضوعها واختلاف درجات طرفيها، فهي وإن كانت داء واحدا إلا أن الداء تختلف أضراره باختلاف محل الإصابة به.
فالداء يصيب القلب وغيره، إذا أصاب اليد أو الرجل، كالجرح مثلا؛ فجرح القلب أو الدماغ قد يميت، وجرح اليد أو الرجل غالبا ما يسلم صاحبه ويبرأ جرحه، وإن ترك ألما أو أثرا في محله.
والناس في هذا الموضوع منهم من هو بمثابة القلب والرأس والعين، ومنهم من هو كسائر أعضاء الجسد، وعليه فإذا كانت الرشوة في معرض الحكم فإنها الداء العضال والمرض القاتل؛ لأنها تصيب صميم القلب فتفسده فيختل في نبضاته ويفقد التغذية ويصبح غير أهل للحكم، وقد نص الفقهاء أن الحاكم إذا أخذ الرشوة انعزل عن الحكم؛ لأنها طعن في عدالته التي هي أساس توليته.
ب: تفسد منهج الحكم في الأمة أيا كان منهجها؛ فإذا كان يقتضي كتاب الله في بلد إسلامي فإنها ستجعله يغير هذا المنهج ويحكم بهواه وهوى من أرشاه، وهذا أشد خطرا عليه هو، كما قال ابن مسعود: إنه كفر مستدلا بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
تأثيرها على الفرد:
أما تأثيرها على الفرد فإن مردّ ذلك على طرفيها: الراشي والمرتشي.
وتقدمت الإشارة إليه في نصوص سورة المائدة من دنس القلب وذلة النفس وصغار المرتشي.
وأول ما يكون ذلك وصغاره عند راشيه وشريكه، وقد جاء في بعض الأخبار أن شخصا ارتشى وباع سرا من أسرار بلده لملك من الملوك؛ فجاء ليقبض ثمن خيانته وطلب لقاء ذلك الملك وظن أنه سيكرمه لقاء ما أسداه إليه من جميل، فلما حضر طلب مصافحة الملك فأمر الملك بدفع الثمن إليه وقال له: هذا ثمن عملك أما يدي فلا تصافح خائنا.
ب: إماتة الضمير في العاملين؛ فلا يخلص في عمله ولا ينجز ما وكل إليه إلا بأخذها.
ج: إضعاف الكفاءات فلا يجهد المجدّ نفسه في تحصيل مقوماته الشخصية لثقته بالوصول إلى مطلبه عن طريقها، كما يعوّل بعض الطلاب على الغش في الامتحان، أو بعض المشتركين في المسابقات للعمل يعوّل على ما سيوصله إلى العمل المنشود عن طريقها وبالطرق التي يسلكها.
وكما أسلفنا نتائج كل ذلك إنما هي على الفرد أولا ثم على المجتمع ثانيا.
ومن كل ما تقدم يظهر خطر تفشيها ومضار وجودها، مما يحتم محاربتها ومعالجة المجتمع من دائها.
طريقة علاجها:
طريق علاج أي داء إنما تبدأ من تشخيصه، ثم بمنع مسبباته، ثم علاج أعراضه ومضاعفاته.
وإذا كان التشخيص قد وضح فيما تقدم، والأسباب قد وضحت، والأغراض ملموسة والمضاعفات تتزايد فلم يبق إلا منهج العلاج.
ومن المعلوم أن المرض الشخصي يتحمل مسئوليته الشخص المختص به، وإذا كان جماعيا تتحمل الجماعة مسئولية التعاون على علاجه.
والرشوة جمعت بين الأمرين الشخصي والجماعي؛ فعلى الجميع أفرادا وجماعات واجب التعاون على علاجها، وقد رسم لنا القرآن والحديث منهج العلاج.
أولا وقبل كل شيء: القضاء على مسبباتها كما علمنا ضعف الوازع الديني؛ فيعالج بتقويته وتوعية المجتمع توعية دينية، والتحذير من مضارها العاجلة والآجلة من مغبة الأكل الحرام وأثر السحت في النفوس والقلوب مما تقدم.