عـدلهاشتهرت خلافة عمر بن عبد العزيز بأنها الفترة التي عم العدل والرخاء في
أرجاء البلاد الإسلامية حتى أن الرجل كان ليخرج الزكاة من أمواله فيبحث عن
الفقراء فلا يجد من في حاجة اليها. كان عمر قد جمع جماعة من الفقهاء
والعلماء وقال لهم: " إني قد دعوتكم لأمر هذه المظالم التي في أيدي أهل
بيتي، فما ترون فيها؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين : إن ذلك أمرًا كان في غير
ولايتك، وإن وزر هذه المظالم على من غصبها "، فلم يرتح عمر إلى قولهم وأخذ
بقول جماعة آخرين منهم ابنه عبد الملك الذي قال له: أرى أن تردها إلى
أصحابها ما دمت قد عرفت أمرها، وإنك إن لم تفعل كنت شريكا للذين أخذوها
ظلما. فاستراح عمر لهذا الرأي وقام يرد المظالم إلى أهلها.
وعن
عطاء بن أبي رباحقال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز :أنها دخلت عليه فإذا هو في
مصلاه، سائلة دموعه، فقالت: يا أمير المؤمنين، ألشئ حدث؟ قال: يا فاطمة
إني تقلدت أمر أمة
محمدصلى الله عليه وسلّم فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري
المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، وذي العيال في اقطار
الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم
محمدصلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا تثبت لي حجة عن خصومته، فرحمت نفسي
فبكيت. كان شديد المحاسبة لنفسه وَرِعًا تقيًا، كان يقسم تفاحًا أفاءه
الله على
المسلمين،
فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها من فمه، وأوجع فمه فبكى الطفل الصغير،
وذهب لأمه فاطمة، فأرسلت من أشترى له تفاحًا. وعاد إلى البيت وما عاد معه
بتفاحة واحدة، فقال لفاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أَشُمُ الرائحة، قالت:
لا، وقصت عليه القصة –قصة ابنه- فَذَرفت عيناه الدموع وقال: والله لقد
انتزعتها من فم ابني وكأنما أنتزعها من
قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي
بتفاحة من فيْء
المسلمين قبل أن يُقَسَّم الفَي.
تواضعه وزهدهأشتهى عمر تفاحاً، فقال لو كان لنا شيء من التفاح، فإنه طيب الريح طيب
الطعم فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحاً، فلما جاء به قال عمر: ما
أطيب ريحه وأحسنه، أرفعه يا غلام فاقرئ فلاناً منا السلام وقل لهُ: إن
هديتك قد وقعت منا بموقع بحيث تحب. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، ابن عمك
ورجل من أهل بيتك وقد بلغك أن النبي
محمد صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فقال : ويحك، إن الهدية كانت للنبي وهي لنا اليوم رشوة.
وعن بشير بن الحارث قال: أطرى رجل عمر بن عبد العزيز في وجهه، فقال له عمر: يا هذا لو عرفت من نفسي ما أعرف منها، ما نظرت في وجهي.
سياسته الداخليةوقبل
أن يلي عمر بن عبد العزيز الخلافة تمرّس بالإدارة واليًا وحاكمًا، واقترب
من صانعي القرار، ورأى عن كثب كيف تُدار الدولة، وخبر الأعوان والمساعدين؛
فلما تولى الخلافة كان لديه من عناصر الخبرة والتجربة ما يعينه على تحمل
المسؤولية ومباشرة مهام الدولة، وأضاف إلى ذلك أن ترفَّع عن أبهة الحكم
ومباهج السلطة، وحرص على المال العام، وحافظ على الجهد والوقت، ودقَّق في
اختيار الولاة، وكانت لديه رغبة صادقة في تطبيق العدل.
وخلاصة القول أن عمر بن عبد العزيز
رجلزهد وولاية ووجد نفسهُ فجأة خليفة؛ بل كان رجل دولة أستشعر الأمانة، وراقب
الله فيما أُوكل إليه، وتحمل مسؤولية دولته الكبيرة بجدٍّ واجتهاد؛ فكان
منه ما جعل الناس ينظرون إليه بإعجاب وتقدير.
وكان يختار ولاته بعد تدقيق شديد، ومعرفة كاملة بأخلاقهم وقدراتهم؛ فلا
يلي عنده منصبًا إلا من رجحت كفته كفاءة وعلمًا وإيمانًا، وحسبك أن تستعرض
أسماء من اختارهم لولاياته؛ فتجد فيهم العالم الفقيه، والسياسي البارع،
والقائد الفاتح، من أمثال أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أمير المدينة
وقاضيها، والجراح بن عبد الله الحكيمي، أمير البصرة، وكان قائدًا فاتحًا،
وإداريًا عظيمًا، وعابدًا قائدًا، والسمح بن مالك أمير الأندلس، وكان
قائدًا فذًا، استُشهد على أرض الأندلس، وكان باقي ولاته على هذه الدرجة من
القدرة والكفاءة.
وكان عمر لا يكتفي بحسن الاختيار بعد دراسة وتجربة، بل كان يتابع
ويراقب، لكن مراقبته لم تكن مراقبة المتهم، بل كان يراقب تطبيق السياسة
العامة التي وضعها للدولة.
وإذا كان قد أخذ نفسه بالشدة والحياة الخشنة، فإنه لم يلزم بها ولاته،
بل وسّع عليهم في العطاء، وفرض لهم رواتب جيدة تحميهم من الانشغال بطلب
الرزق، وتصرفهم عن الانشغال بأحوال
المسلمين، كما منعهم من الاشتغال ب
التجارة،
وأعطى لهم الحرية في إدارة شئون ولاتهم؛ فلا يشاورونه إلا في الأمور
العظيمة، وكان يظهر ضيقه من الولاة إذا استوضحوه في الأمور الصغيرة، حيث
كتب إليه أحد ولاته يستوضح منه أمرًا لا يحتاج إلى قرار من الخليفة، فضاق
منه عمر، وكتب إليه: "أما بعد، فأراك لو أرسلتُ إليك أن اذبح شاة، ووزِّع
لحمها على الفقراء، لأرسلت إلي تسألني: كبيرة أم صغيرة؟ فإن أجبتك أرسلت
تسأل: بيضاء أم سوداء؟ إذا أرسلت إليك بأمر، فتبيَّن وجه الحق منه، ثم
أمْضِه".
و قد كان أول من أوقف عطايا بني أمية وأول من أوقف عطايا الشعراء.
آخر خطبةفي
آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز من منبر الجامع الكبير في دمشق قال:
إنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل
بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم جنة
عرضها السموات والأرض.ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم
الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً
ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتودعونه وتدعونه في صدع من
الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب،
وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً إلى ما أسلف، فاتقوا الله عباد الله
قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته، وأني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند
أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه. ثم رفع
طرف ردائه وبكى حتى شهق ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى توفي.
وفـاته وشكوك من مقتلهتوفي الخليفة الأموي
عمر بن عبد العزيز سنة
101 للهجرة ودفن في منطقة
دير سمعان من أعمال المعرة بالقرب من
حلب في
سوريا.
وقد قال بعض المؤرخين ان عمر عبد العزيز قد قتل مسموما على ايدى بعض امراء
بنى امية بعد ان اوقف عطياهم وصادر ممتلاكتهم واعطها لبيت مال المسلمين
وهذا الرأي الارجح. استمرت خلافته فترة قصيرة جداً، فلم تطل مدة خلافته
سوى عامين ونصف، ثم حضره أجله ولاقى ربه عادلاً في الرعية قائماً فيها
بأمر الله.وعندما توفي لم يكن في سجنه رجل واحد. وفي عهده انتشر العلم
وكثرت المساجد في ارجاء
الدولة الأموية التي تعلم
القرآن،
وفي عهده القصير أوقف الحرب مع جيرانه ووسع العمل داخل دولته (البنية
التحتية للدولة) كالشوارع والطرقات والممرات الآمنة ودور الطعام (التكايا)
كما في
دمشق و
حلب والمدينة وحمص ومدن
مصر والمدن الإسلامية في كل البقاع والمدارس ونسخ الكتب والترجمة والتعريب ونقل العلم وإلى غير ذلك من الأعمال الخيرة حتى دعاه
المؤرخون بخامس
الخلفاء الراشدين.